نظرة سريعة :: الإستقلال التجاري والتبادل من طرف واحد

*
*

لا زلت أتذكر في مطلع الثمانينات أحاديث التجار من أقاربي الذين يرتادون مطرح ودبي لجلب البضائع ويبيعونها في سوق نزوى سواء ذلك الغربي ، الذي خربت روحه التجارية النشطة وزارة التراث بدعوى التجديد أو السوق الشرقي القديم وسوق حارة الوادي ... حيث كانت مطرح للكثيرين من تجار التجزئة والجملة ، مرتع إقتصادي ذا ربح وفير وجودة من البضائع.

وفي مطلع التسعينيات بدءت تظهر على السطح تجارة أخرى وإشتهرت بها المدن الرئيسية في عمان وخاصة مسقط و نزوى وصور والبريمي وصلالة ، هذه التجارة كانت تسمى "كل شيء ب(1 ، 2 ، 3) ريال وحسب ما اخبرني أحد التجار المعروفين اليوم أن هذا النوع من التجارة بدأه التجار الإيرانيين وانتشر لاحقا في دول الخليج كالنار في الهشيم ، ومن ثم تغَير أسمها فيما بعد وأصبحت تسمى تجارة الكماليات وملابس الأطفال أو أسواق ، وسآتي لاحقا لأسباب التغيير ...

بدء بهذا النوع من التجارة في عمان مجموعة من تجار التجزئة ، ومع توسع مطالب الفرد العماني وإنفتاحه على إحتياجات كثيرة ، لم تكن سابقا من ضمن قوائم الشراء ، ما كان سببا في البحث عن ملجئ أخر وكان المسار الوحيد هو شراء أشياء جميلة ورخيصة جدا لا يزيد سعرها عن ثلاثة ريالات ..

هذا الإقبال الكبير من المشتري صاحب الدخل المحدود جعل من أصحاب تجارة كل شيء ب (1، 2 ، 3) التحول الى تجارة الكماليات وأسواق (دون تحديد سعر يلزم البائع باه) وجلب بضائع بالجملة من دبي وأماكن أخرى وبيعها بالتجزئة ...

ومن الأمثلة البسيطة لتقريب الصورة على نوع واحد فقط من هذه السلع وهي العطور المستوردة المغشوشة التي تباع بريالين وما فوق ، بينما أن سعرها بالجملة هو قيمة عطر أو عطرين بالتجزئة !!! ومن أراد أن يتأكد فليذهب لسوق الجملة في ديرة (دبي) وليرى ذلك بنفسه ...

والأغرب أن البعض يبيع بعض السلع بالتجزئة ضعف القيمة التي دفعها للجملة! ، ولا زال هناك إقبال كبير مع إنفتاح تجارالجملة في دبي الى السوق الصيني الرخيص جدا بدل التايوني والتايلندي ..

ومن يذكر أسعار أسواق رامز عند بداية إفتتاحه مقارنة بإسعاره اليوم ؟ .. منذ أكثر من 5 سنوات لا زلت أحتفظ بصحون بيضاء عليها زخارف ذهبية إشتريت الواحد ب 200 بيسة واليوم يباع مثله بريال ونصف .. !

هذه مقدمة بسيطة ومدخل لموضوع شائك وكبير جدا ... ولكني سأختصره كي يبقى نظرة سريعة وعسى الوقت يتسع لي ولغيري لتكون النظرة عن كثب وبحث في المستقبل.

الإنفتاح الإقتصادي الكبير الذي حدث في دبي ، تبعه فيما بعد رؤية إقتصادية عملاقة فتحت شهية الكثيرين من تجار الكماليات وخاصة أبناء وأحفاد تجار التجزئة والجملة على حد سواء ، وأصبح الإعتماد على مستوردات مطرح التي كانت تأتي عبر ميناء مسقط وعن طريق تجار بانيان من الهند وبعض دول أسيا كتايلند وتايون واليابان واندونيسيا أقل بكثير بل تناقص لحد الخوف لتذهب أموال التجار الى جهة أخرى وربحها كبير جدا ومضاعف ... البضاعة المستوردة الجديدة الى أسواقنا من دبي تطغي عليها صفة الجودة الرديئة فكانت الإلكترونيات سريعة التلف ، الملابس والأحذية يبهت لونها وتتمزق ومواد البناء خفيفة وسريعة الكسر والضياع ...

وخلال تلك الأعوام زادت مطالب المستهلك العماني وكانت كثيرة ومتنوعة وجيب المواطن العماني لا يقدر على حملها .. فكانت النتيجة أن يأتي التاجر العماني بما هو رخيص وحلو المظهر لتغطية العوزة وقلة ما في اليد أمام المشتري ضعيف الدخل .... ولا زالت الفكرة السائدة حتى اليوم بأن تلك البضاعة رخيصة مع أن سعرها تضاعف بكثير (بسبب جشع التجار) مع الإبقاء على ردائة الجودة ، مع إنتباه البعض بأنه إقتصاديا وأكثر جدوى هو شراء الأصلي من تلك السلع والكماليات ...

عودة للجارة وهي مدينة دبي ، هي تلك المدينة الصغيرة في حجمها الكبيرة في الكثير من الأشياء! كان الأمر تجارة في تجارة قبل أن يتحول إلى جملة من مفاهيم إقتصادية حديثة بحته يتم تطبيقها جملة واحدة على مدينة لا يزيد طولها عن 20 كيلو متر مربع ... ولا زلت أذكر حديث لسامي بطرس، رجل مبيعات لشركات الهزيم في الشارقة ، يقول بلهجته المصرية " ده دبي لما تشوفها من فوء(ق) الطيارة كبرها زي الكف ده ... وفي أمريكا يقام أكبر إجتماع لسلسلة فنادء (ق) شيراتون ، يفكرون كلهم كيف بيستثمرو في دبي ... حاجه مش طبيعيه! .. " كان هذا الحديث في عام 1993 .. ولا أظن أن إدارة فنادق شيرتون نجحت في إجتماعها كالنجاح الذي حققته سلسلة فنادق روتانا !!! هل منكم من يعرف السبب؟

كنت حينها، أثناء حديث سامي، مستمع أكثر منه متكلم لم أكن أعي عن دبي سوى أنها مركز دعارة يستحي الكثيرين أن يسكن فيها ويفضلوا الشارقة بدل منها! ودون مجانبة للحقيقية فهي بجانب نبوغها الإقتصادي العملاق ملاذ للكثير من أصحاب النزوات ومرتع خصب لتجارة الدعارة والسبي المقنن ... والحديث عن هذه التجارة طويل جدا سأتركه الأن ...

في نهاية الثمانينيات بدءت دبي تفكر لأوسع من إستقطاب تجار عمان والدول المجاورة وهو التفكير عالميا وذلك بإنشاء شركة طيران وميناء ومركز عالمي للمعارض يتمحور من خلالها إقتصاد دبي ومنطقة صناعية مفتوحة تشكل نافذة الخليج للعالم الكبير لتكون مركز أو (hub) للشرق الأوسط أجمع .. وبإفتتاح مدينة دبي للإنترنت ودبي ميديا ودبي للإعلام والتسهيلات الضريبية والخدمية ، بدءت كبرى شركات التقنية والإعلام والآلات الصناعية في العالم بفتح مراكز الإتصالات والدعم للشرق الأوسط ومن خلالها يتم تنفيذ كبرى المشاريع التقنية وبناء مراكز محطات إذاعية وتلفزيونية تبث للشرق الأوسط... وحتى اليوم لا زال مقار وفروع الشركات العملاقة تقوم بالدعم الفني ومراكز الإتصال من دبي ويغطي معضم دول المنطقة والشرق الأوسط... حتى قيل أن الموساد الإسرائيلي يعمل على زعزعت إستقرار هذا النمو السريع وقام بدس برامج قرصنه في أجهزة كمبيوتر لتجميع أكبر قاعدة بيانات عن نمو إقتصاد دبي ، وذلك ليفتح الطريق لتل أبيب لإستقطاب مراكز وفروع الشركات العملاقة لتكون مقرها الأوحد في الشرق الأوسط وهذا ما فعلته شركة إنتل عندما كان أمامها خيار دبي وتل أبيب! ... هذا جنبا لجنب مع خطط التطبيع!

من جانب أخر ، أخبرني أحدهم وهو مصدر أثق في تحليله كثيرا بأن محمد بن راشد زار عمان بين 1985 و 1990 وأخذ جولة تفقدية مع بعض الحوارات القصيرة مع مسؤلين عمانيين .. يقول هذا المتحدث، أن الهدف من الزيارة كان جس نبض وإستنتاج إقتصادي وإستراتيجي في آن واحد ... فنتائج الزيارة كانت واضحة للعيان ، فموقع عمان الإستراتيجي وسياستها الخارجية القوية كانت لتمكنها بأن تكون الأسبق في هذا الإنفتاح الإقتصادي ...وتبادا لمحمد بن راشد واضحا أن عمان لا يلوح في أفقها أي تخطط مشابه ، (وله كل الحق) أن يبدء وبسرعة جدا .... كي عندما تستيقظ عمان من غفوتها تكون دبي قد سبقتها بأعوام .. وفي المعايير الإقتصادية تكون سبقتها بإضعاف السنوات الحقيقية ..! وحقيقة أن دبي تسبق معضم دول الخليج ب 28 عاما .. وهذا ما يتحدث عنه الإعلام الإماراتي !

قرأت العديد من المقالات منذ سنوات طويلة عن الداعم الأساسي لإقتصاد دبي وأخواتها جلها تتمحور حول خزعبلات الزئبق الأحمر والتجارة مع الجن .. ! ولكن في الحقيقة كان نمو التجارة وجلب الإستثمار الخارجي والرؤية الاقتصادية الكبيرة وجلب العقول الإستثمارية والإقتصادية ما ساعد دبي على النمو الكبير... والرقم الكبير للمستثمرين الإيرانيين ، على سبيل المثال لا الحصر، وحدهم يدلل على هذا الإنفتاح ، فمن خلال ما أطلعت عليه من برامج ومقالات عن علاقات إيران والإمارات العربية المتحدة .. هناك تقريبا أكثر من ثمانية عشر ألف مليونير إيراني يسكنون مدن الإمارات .. موقف أمارتي صعب !

سأعود بكم قليلا الى آلية التجارة في عمان ، وما سأورده هنا يأتي من تجربه وال (Exposure) الذي منيت به من خلال معارفي وأهلي التجار ...

اليوم هناك ثلاثة مصادر تجارية لتجار العمانيين بجانب إقتصاد تجاري مدعوم من الحكومة على هيئة مناقصات تدخل فيه الشركات الكبيرة بتمثيل تجاري لشركات عالمية ... المصادر الثلاثة لتجارة التجزئة والجملة للسلع والمواد هي دبي وأخواتها ومسقط وإستيراد مباشر من الهند والصين وتايلند وباقي دول العالم ... وحسب ما أراه واضحا بأن معضم السلع والمواد الأساسية تأتي عبر دبي والشارقة وخاصة تلك السلع التي تباع ككماليات وملابس أطفال وأحذية ومفروشات ومواد بناء وأثاث بجانب السياحة وخطوط إنتاج لمواد أولية وسلع ومواد تصنع داخل المناطق الصناعية ، فأصبح العماني يحول الأموال سواء عبر البنوك أو جيبة الى إمارة دبي وأخواتها بشكل يستدعي الكثير من التأمل والوقوف عليه ...

زيارتي الأخيرة الى دبي ، الأسبوع الماضي ، لم تكن مختلفة عن تلك الأولى في نهاية الثمانينيات فالعمانيون في إمارة دبي وأخواتها يملئون الفنادق والأسواق ... متابينين الأهداف بين تاجر وسائح ومتسوق وغيرهم! .. حتى أحد التجار يقول لي بأنك تراى في دبي والشارقة عشرة عمانيين وإماراتي واحد.

إذن هناك قناعة واسعة الإنتشار ربما بين رجالات الدولتين والمثقفين (إن لم يكن العامة مدركا لها ...) بأن الإثنين لا يستغني عن الأخر من حيث إنعاش الأسواق والسياحة و الخدمات والدعم الفني لمشاريعها وأنظمتها والتبادل الإقتصادي التجاري ...

مع هذه الصورة السريعة عن التجارة بين الجارتين واعتماد الطرفين على الأخر في إنعاش السوقين ، يبقى السؤال ما القوة التي تتمتع بها كلتا البلدين من الناحية الإقتصادية والتجارية والسياسية على الأخرى؟ وما هي القوة الداعمة التي تمكن عمان كشعب وحكومة من الإستقلال التجاري والسياحي على الأقل خلال السنوات القادمة ، بحيث يكون لها منافذها الخاصة ومواقع جلب سياحية مكتملة الخدمات مشابهة لتلك التي في دبي وأخواتها من الإمارات .. وما هي قوة حكومة عمان (غير التاريخي!) في الوقوف أمام تصرفات غير مسؤلة من مسؤليين إماراتيين ..
هل سيكون لمنطق العولمة وأن الأقوى إقتصاديا هو الأقوى سياسيا والتبادل التجاري من طرف واحد ثقل لحل أزمات ربما ستكون قادمة ؟! أم هناك حلول تلوح في الأفق ؟




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة لأخي بدر العبري …

فوهة المدفع والبارود .... كلمة حق

القيم التي تعيش عليها الحياة الزوجية