كاريزما الثوريون الجدد
*
*
غانم ، بلغ من العمر أربعين عاما ، واسع الثقافة والإطلاع لكنه بدون شهادة معلقة على حائط المجلس، قرر ان يوسع أفقه السياسي ليكون مصلحا سياسيا بفكر معارض ، حسب التصور الديموقراطي العام ، تقليديا أو مدونا أو فيسبوكيا أو تويتيريا والثلاث الأخيرات هي مجموعة الوسائل الإعلامية المعارضة المعاصرة التي صور له الإعلام الحديث أنها أفضل ما يمكن ان يفعله لبث فكره الإصلاحي ، وهي الأسهل والأرخص والأقل مشقة والأكثر فاعلية بالتجربة ... غانم ، يبيع المشاكيك بجانب أحد الطرق الفرعية، إلا أنه مربوط بأحد البيرولات payroll الحكومية (مصروفه الشهري).
حركته المستمرة كأنه ساعة زمن على صرح مكتض بالآدميين يبادل النقد بحزات لحم، ولدت له أفكار التغيير فالدخان الذي يعلو الأفق كان يرسم له فلك جديد من نقاط يصل بعضها بعضا لتشكل له شيئا ما أو يرسم له صور متنوعة لا تخرج عن إطار فكره السياسي ... وبعد الربيع العربي من العام الماضي وبين الربيعين وبسبب ثقافته الواسعة ... أصبحت تتكون له صورة أخرى على الدخان المتصاعد ، ولكنه لم يستطع أن يصل النقاط ببعضها ، كان فك طلاسمها معقد كتعقيد الرمز المفقود لدان براون .
ما يُقيضُ خيالاتهُ الآنية عادة، تلك النار التي تخرج من بين المشاكيك او صراخ أحدهم وهو يطلب؛ لو سمحت أحد عشر مشكاك ، وحطلهم صبار ، وسؤال مفاجيء ، شيء حبار؟ وهي صورة حركية مشابة لسابقتها ولاحقتها ولكن تتغير بعض المعطيات كالعدد واللون والوجه والجنس، وهو النمط الحياتي الروتيني للكثير من الناس!
كانت النقاط الجديدة المرسومة على الدخانة أحد عشر وسبعة وثلاثة ثم واحدة ، متتاليات!!! حاول أن يصل بعضها ببعض تارة ، وتارة أخرى متقطعات وأحيانا متفرقات ولكن دون جدوى ، حاول توسيع ثقافته المحلية فقرر ان يمضي بعض الوقت يتابع الاعلام الداخلي المضروب ، في صحافته الممزقة قبل أن تُنشر، وقناته الملوثة ببراقيع الأعراب! بل حتى إعلاميه الإنتهازيين !! بسبب التعليم الذاتي والذات التعليمية ، فأخر إعلامي مبتعث لا زال يدفع دين البعثة الى ماليزيا ! وأحدهم وهو اكثرهم مشاكسة وأقلهم اكتراث بكلماته وأقلهم تأهيلا أكاديميا في الإعلام، لا زالت برامجه الهزيلة القديمة، بسبب دكتاتورية الإعلام السابقة، كوابيس مخرجاته الفنية والإعلامية الإصلاحية الحديثة ! غانم يعلم حق اليقين ان الوجه الجديد لهذه المؤسسة لا تزال تعمل في نفس الحدود الضيقة التي عملت بها لأربعين عاما وأنماط التغيير متشابه.
أدرك غانم ملامح طموحه وعرف أنه من خلال بيع المشاكيك سيصل الى هدفه وأن أي فرد قادر ان يكون مصلحا سياسيا من خلال مهنته الأخرى ، غير المطوقة تلك بطوق البيرول الحكومي ، يعني منفذه الوحيد مبادلة حزات اللحم بالنقد، هذا إن قضى طموحه السياسي على مستقبل مهنته البيرولية المسيطرة على حدود طموحه!، والنقاط المتكونة من الدخان المتصاعد والتي حتما تكون صورة أخرى محلية عمانية بحته ، ستفُك هذه الدخانة العجيبة طلاسم سينفذ من خلالها الى فكره الجديد وهو الإصلاح السياسي من خلال الوسائل المعاصرة!
كانت كاريزما الثوريين الجدد تعجبه ولكنه يخفيها داخل هيجانه الإصلاحي ، وحبه للمزيج الثوري بين مطالب الغرب والشرق! وكان يرى في وجه كل عماني قناع يخفي خلفه إنسان أخر ، ربما تغيرت ملامح القناع بمستوى النعمة التي وصل إليها! أو ربما بمستوى المنفعة! بمنافع ومقدرات وثروات هذه الأرض ! ولكنها كلها أقنعة و هو كثير السمع لحديث المجالس*بأن العلاقات تولد العمل؟ وأن ما نزعمه معرفة هي إستغلال وإستبداد وأنه اليوم عزبة وغدا ملك، مفهوم التحييز!
الصورة المعاكسة لقناع ألن مور صاحب رواية V for Vendetta كان يرسمها في كل وجه جديد من الوجوه التي تتكرر يوميا ثلاثين أو أربعين مرة على حسب حبات اللحم المشكوكة ، وخِفة الدخان المتصاعد الى الأفق وعلى حسب الحاجة في تلك اليوم، كان يألمه ذلك القناع المعكوس لأن ثقافته الواسعة علمته أن العقل السليم في الجسم السليم وأن سلامة العقول من سلامة الأبدان إذا ما عكر صفوها مرض عضال أو خِلقة قدرية وأن المشكاك الزائد يولد تخمة في البطن وأخرى في العقل.
مراسيم الإجتثاث الأخيرة كانت تثير زوبعة آنية تشبه تصاعد الدخان من شواية المشاكيك وهذه الزوبعة بين أفراد، وهم القلة معضمهم إفتراضين ! ، ولكنها مع كل مرسوم كانت تزيد نقطة في دخانة غانم وتعطيه رمزا يفك به طلاسم الصورة التي بدأت تكبر مع حلمه السياسي الجديد، كان مؤمنا ان هناك محصلة أخيرة وهي الصورة الحقيقة التي سيدونها التاريخ يوما ! اذا ما حرص أصحابها على كتابته دون بيوقراطية عمياء ولا تهميش للفرد ولا منا ولا أذى، ولا حتى إستئثار بحقبة دون أخرى ، تاريخ يكتب ملامحه الجميع!
أما تفريغ العقليات القديمة من مؤسسة ترتكز على قوانين غير قابلة التحديث ، سيولد ثقافة توارثية ، تتشبع مؤسسات هذه المؤسسة العملاقة بقوانين رجعية، دون الشعور بها! وهي فعلة كغثاء السيل ومتهالكة الأركان! لن تجدي نفعا، وليس أي نظام ينفع سوى ما تحدده الشعوب لنفسها ، تاريخيا وإجتماعيا وثقافيا وفكريا ، وليس ينفع أي مهمة للإصلاح الشامل ما دام الإصلاح لا يقوم على وعي من الفرد نفسه وحكومة ذات آذان صاغية، لا أن تقوده معطيات حقبة التجهيل المتعمد.
غانم ، ينظر للمؤسسة الدينية بعين المراقب علها ستكون أحد خيوط رموز دخانته ، وهو ليس متفائلا لأن ظاهرها نائم ولا يعي ما تخفيه داخلها من خلال أركانها! أما تفريغها من عناصرها المنتجة اليوم ، ليس عن قصد وترصد بل ان جمعهم قوة وشتاتهم فرقة ، والتشكيك بمصداقيتهم أسهل طريق لتشتيتهم ، بل إن اللتفريغ عن جهل وتعسف ، وللأسف هو يرى أن تعلق بعض جنحانها بعمود المؤسسة الدينية الذي يقاتل لنصرة العقيدة والدين ، ولم ينشغل بالسياسة ولم تكن أولويته أبدا ، هذا التعلق وآهم ولن يكون له بعداً سياسياً واضحا لمساهمة الدين في فكره الإصلاحي.*
في كل يوم غانم يبيع فيه المشاكيك تتكاثر النقاط مع الأحد عشر والسبع والثلاث ولازالت الاخيرة منفردة ، فهي نتاج جميع الأحداث وهي أما أن تزيد تعقيداً أو أنها سترسم خطاً تتجاوز فيه بعض النقاط الى أخر نقطة لتنهي فكرة من أزمان هذه الارض العريقة وساكنها الأصيل الذي لا يستحق الا الخير والحياة الكريمة!
تعليقات